لأهمية هذه القصيدة للشاعر العربي الأكبر ( الجواهري الكبير)
حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني - يا دجلة الخير يا أم البساتين
حيّيْتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به - لوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ
يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ - على الكراهةِ بين الحين والحينِ
إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً -نبْعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني
وأنت يا قارباً تلْوي الرياحُ بهِ -ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانينِ
وددْتُ ذاك الشراع الرّخصَ لو كفني -يُحاكُ منه، غداة البيْنِ، يطويني
يا دجلة الخير: قد هانت مطامحُنا - حتى لأَدنى طِماحٍ غيرُ مضمونِ
أتضمنين مقيلاً لي سواسيةً -بين الحشائش أو بين الرياحينِ
خِلْواً من الهمِّ إلا همَّ خافقةٍ- بين الجوانح أعنيها وتعْنيني
تهزّني فأجاريها فتدفعُني - كالريح تُعْجلُ في دفع الطواحينِ
يا دجلة الخير: يا أطياف ساحرةٍ -يا خمر خابيةٍ في ظلّ عُرجونِ
يا سكْتَةَ الموتِ، يا أطيافَ ساحرةٍ - يا خنْجَر الغدر، يا أغصان زيتونِ
يا أمّ بغدادَ، من ظَرْفٍ ومن غَنجٍ -متى التبغْددُ حتى في الدهاقينِ
يا أمّ تلك التي من (ألف ليلتها) -للآنَ يعبقُ عطرٌ في التلاحينِ
يا مُسْتجمَّ (النواسيّ) الذي لبستْ به الحضارة ثوباً وشْيَ (هارون)
الغاسلِ الهمّ في ثغرٍ وفي حَببٍ - والمُلْبسِ العقْلَ أزياءَ المجانينِ
والسّاحبِ الزقّ يأباهُ ويُكرِههُ- والمُنْفقِ اليوْمَ يُفْدَى بالثلاثينِ
والرّاهنِ السّابريَّ الخزّ في قَدحٍ - والمُلهمِ الفن من لهوٍ أفانينِ
والمُسمعِ الدّهرَ والدنيا وساكنَها - قرْعَ النواقيسِ في عيد الشّعانينِ
يا دجلةَ الخير: ما يُغْليكِ من حَنقٍ - يُغلي فؤادي، وما يُشجيكِ يُشجيني
ما إن تزالُ سياطُ البغْى ناقعةً - في مائكِ الطُهرِ بين الحين والحينِ
ووالغاتٌ خيولُ البغْيِ مُصبحةً - على القُرى - آمناتٍ - والدهاقينِ
يا دجْلَة الخير: أدري بالذي طَفحتْ به -مجاريك من فوقٍ إلى دُونِ
أدري على أيّ قيثارٍ قد انفجرتْ - أنغامُكِ السمّرُ عن أناتِ محزونِ
أدري بأنك من ألفٍ مَضَتْ هَدراً - للآنَ تهزْينَ من حكمِ السلاطين
تَهزين أنْ لم تَزَلْ في الشرق شاردةً - من النواويس أرواحُ الفراعينِ
تهزين من خِصْب جنّاتٍ مُنثرةٍ - على الضفافِ ومن بُؤسِ الملايينِ
تهزيْنَ من عُتقاءٍ يوم ملحمةٍ - أضفوْا دروع مطاعيمٍ مطاعينِ
الضارعين لأقدارٍ تحِلُّ بهمْ كما - تلوّى ببطن الحوت ذو النونِ
يروْن سود الرزايا في حقيقتها - ويفزعون إلى حدْسٍ وتخمينِ
والخائفين اجتداع الفقر مالهمو - والمُفضلينَ عليه جَدْعَ عِرْنينِ
واللائذين بدعوى الصبر مَجْبنةً - مستعصمين بحبْلٍ منه موهونِ
والصبرُ ما انفكّ مرداةً لمحتربٍ - ومستميتٍ، ومنجاةً لمسكينِ
يا دجلةَ الخير: والدنيا مفارقةٌ - وأيّ شرٍّ بخيرٍ غيرُ مقرونِ
وأيُّ خيْرٍ بلا شرٍّ يُلقّحهُ - طهْرُ الملائكِ من رجْسِ الشياطينِ
يا دجلةَ الخير,كم من كنْز موهبةٍ - لديْكِ في (القُمْقُمِ) المسحور مخزون
لعلّ يوماً عصُوفاً جارفاً عرساً - آت فترضيك عقبان وتُرضيني
يا دجلةَ الخير: إن الشعر هدهدةٌ - للسمع، ما بين ترخيمٍ وتنوين
عفْواً يردّد في رَفْهٍ وفي عَللٍ - لحن الحياة رخيّاً غَيْرَ ملحونِ
يا دجلة الخير: كان الشعر مُذْ رسمتْ - كفّ الطبيعةِ لوْحاً سفرَ تكوينِ
يا دجلة الخير: لم نصحبْ لمسْكنةٍ - لكنْ لنلْمِسَ أوجاعَ المساكينِ
هذى الخلائقُ أسفارٌ مُجسّدةٌ - المُلهمونَ عليها كالعناوينِ
إذا دجا الخطْبُ شعَت في ضمائرهم - أضواءُ حرْفٍ بليل البؤسِ مرهونِ
دَيْنٌ لزامٌ، ومحسودٌ بِنِعمتهِ - من راح منهم خليصاً غير مديونِ
يا دجلةَ الخير: هلا بعض عارفةٍ - تُسدى إليَّ على بُعدٍ فَتجْزيني
يا دجلةَ الخير: منّيني بعاطفةٍ - وألهميني سُلواناً يُسلّيني
يا دجلةَ الخير: من كلّ الاُلى خبروا - بلوايَ لم أُلْفِ حتّى مَنْ يُواسيني
يا دجلةَ الخير: خلِّي الموج مُرتفعاً - طيفاً يمرُّ وإن بعْضَ الأحايينِ
وحمّليه بحيثُ الثلجُ يغمُرني - دفْءَ (الكوانينِ) أو عطر (التشارين)
يا دجلةَ الخير: يا مَن ظلَّ طائفُها - عن كلّ ما جلت الأحلامُ يُلهيني
لو تعلمين بأطيافي ووحشتها - وددّتِ مثلي لو أنّ النوْمَ يجفوني
يا دجلةَ الخير: خلّيني وما قَسمت - لي المقاديرَ من لدْغِ الثعابينِ.